فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن هذا وإن كان استفهامًا في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الاقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر فصار قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} جاريًا مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء مقرونًا بإقرار المكلف بوجوب الانتهاء.
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه: أحدها: تصدير الجملة بإنما، وذلك لأن هذه الكلمة للحصر، فكأنه تعالى قال: لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة وثانيها: أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «شارب الخمر كعابد الوثن» وثالثها: أنه تعالى أمر بالاجتناب، وظاهر الأمر للوجوب، ورابعها: أنه قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحًا كان الارتكاب خيبة، وخامسها: أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين، وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق وحصول الإعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
وسادسها: قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} وهو من أبلغ ما ينتهي به كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف؟ أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ.
وسابعها: أنه تعالى قال بعد ذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال: انتهينا.
وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألاَ إنّ الخمر قد حُرّمت؛ فكسرت الدِّنان، وأُريقت الخمر حتى جرت في سِكك المدينة. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الألوسي:

ثم إنه سبحانه أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام الإنكاري مع الجملة الاسمية مرتبًا على ما تقدم من أصناف الصوارف فقال جل شأنه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} إيذانًا بأن الأمر في الردع والمنع قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية حتى إن العاقل إذا خلي ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء.
ووجه تلك التأكيدات أن القوم رضي الله تعالى عنهم كما قيل كانوا مترددين في التحريم بعد نزول آية البقرة (912) ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: «اللهم بين لنا في ذلك بيانًا شافيًا» فنزلت هذه الآية، ولما سمع عمر رضي الله تعالى عنه {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} قال: «انتهينا يا رب»، وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل في تحريم الخمر: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] الآية، فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها التي فيها، وقال آخرون: لا خير في شيء فيه إثم ثم نزل {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [النساء: 43] الآية فقال بعض الناس: نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية فانتهوا.
وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية لنا نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه قد حرم الخمر فمن كان عنده شيء فلا يطعمه ولا تبيعوها» فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها من طرق المدينة مما أهراقوا منها.
وأخرج عن الربيع أنه قال لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية بالمائدة فحرمت الخمر عند ذلك.
وقد تقدم في آية البقرة شيء من الكلام في هذا المقام فتذكر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فهل أنتم منتهون} الفاء تفريع عن قوله: {إنّما يريد الشيطان} الآية، فإنّ ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعًا بهم إلى مقام الفَطن الخبير، ولو كان بعد هذا البيان كلّه نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز.
ولذلك اختير الاستفهام بـ {هل} التي أصل معناها «قد».
وكثر وقوعها في حيّز همزة الاستفهام، فاستغنوا بـ {هل} عن ذكر الهمزة، فهي لاستفهاممٍ مضمَّن تحقيقَ الإسناد المستفهَم عنه وهو {أنتم منتهون}، دون الهمزة إذ لم يقل: أتنتهون، بخلاف مقام قوله: {وجَعَلنا بعضَكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان: 20].
وجعلت الجملة بعد {هل} اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته، وأريد معها معناه الكنائي، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه.
ولذلك روي أنّ عمر لمّا سمع الآية قال: «انتهينا انتهينا».
ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أنّ الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجرّدًا عن الكناية.
فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله: «إلاّ أنّ الله تعالى قال: {فهل أنتم منتهون} فقلْنا: لا» إن صحّ عنه ذلك.
ولي في صحته شكّ، فهو خطأ في الفهم أو التأويل.
وقد شذّ نفر من السلَف نقلت عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر، لا يُدرى مبلغها من الصحّة.
ومحملها، إنْ صحّت، علَى أنّهم كانوا يتأوّلون قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} على أنّه نهي غير جازم.
ولم يَطُل ذلك بينهم.
قيل: إنّ قُدامَة بن مظْعون، مِمَّن شهد بدرًا، ولاّه عُمر على البحرين، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنّه شرب الخمر، وأنكر الجارود، وتمّت الشهادة عليه برجل وامرأة.
فلمّا أراد عمر إقامة الحدّ عليه قال قدامة: لو شربتُها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني.
قال عُمر: لِمَ، قال: لأنّ الله يقول: {ليس على الذين آمنوا وعَملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} [المائدة: 93]، فقال عمر: أخطأت التأويل إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حَرّم عليك«.
ويروى أنّ وحشيًا كان يشرب الخمر بعد إسلامه، وأنّ جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر، وتأوّلوا التحريم فتلوا قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93]، وأنّ عمر استشار عليًّا في شأنهم، فاتّفقا على أن يستتابوا وإلاّ قُتلوا.
وفي صحة هذا نظر أيضًا.
وفي كتب الأخبار أنّ عُيينة بنَ حِصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلّة بني زُبيد بالكوفة فقدّم له عَمْرو خَمرًا، فقال عيينةُ: أو ليس قد حرّمها الله.
قال عَمْرو: أنتَ أكبَرُ سِنًّا أم أنا، قال عيينة: أنتَ.
قال: أنتَ أقدَمُ إسلامًا أم أنا، قال: أنتَ.
قال: فإنّي قد قرأتُ ما بين الدفتين، فوالله ما وجدت لها تحريمًا إلاّ أنّ الله قال: فهل أنتم منتهون، فقلنا: لا»
.
فبات عنده وشربَا وتنادما، فلمّا أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن:
جُزيت أبَا ثَوْر جَزَاء كرامةٍ ** فنِعْم الفتى المُزْدَار والمُتَضَيِّف

قَرَيْتَ فأكْرَمتَ القِرى وأفدْتَنَا ** تَحِيَّةَ عِلْم لم تَكن قبلُ تُعرف

وقلتَ: حلال أن ندِير مُدامة ** كَلَوْن انعِقَاقِ البَرْقِ والليلُ مُسدف

وقَدّمْتَ فيها حُجَّة عربيَّة ** تَرُدّ إلى الإنصاف مَن ليس يُنْصِفُ

وأنتَ لنا واللّهِ ذي العرش قُدوَة ** إذا صدّنا عن شُرْبها المُتكَلِّفُ

نَقُول: أبُو ثَوْر أحَلّ شَرَابَهَا ** وقولُ أبي ثَوْر أسَدّ وأعْرف

وحذف متعلّق {منتهون} لظهوره، إذ التقدير: فهل أنتم منتهون عنهما، أي عن الخمر والميسر، لأنّ تفريع هذا الاستفهام عن قوله: {إنّما يريد الشيطان} يعيّن أنّهما المقصود من الانتهاء.
واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد، لأنّ إقلاع المسلمين عنهما قد تقرّر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنّهما من مآثر عقائد الشرك، ولأنّه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإنّ ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوزاع الشرعي، فلذلك أكّد النهي عنهما أشدّ ممّا أكّد النهي عن الأنصاب والأزلام. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: المقصود هو النهي عن كل ما يصد عن الله أو يشغل العبد عن شهود مولاه، وخص هذه الأربعة، لأنها أمهات الخطايا ومنبع الغفلة والبلايا، فالخمر فيه فساد العقل الذي هو محل الإيمان، والميسر فيه فساد المال وفساد القلب بالعداوة، والشحناء، وفساد الفكر لاستعماله في الهوى، والأنصاب فيه فساد الدين الذي هو رأس المال، والأزلام فيه الفضول والاطلاع على علم الغيب، الذي هو سر الربوبية، وهو موجب للمقت والعطب، والعياذ بالله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}.
طال بُعْدُهم عن الحقيقة فقاسوا الهوان في مطارح الغربة، وصاروا سخرة للشيطان؛ فبقوا عن الصلاة التي هي محل النجوى وكمال الراحة، وفَسَدَتْ ذاتُ بَيْنِهِم بما تولد من الشحناء والبغضاء. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}.
لم يأت الحق هنا بالأنصاب أو الأزلام؛ لأن المؤمنين لا يعتقدون فيها وانتهوا منا، والخطاب هنا موجه للمؤمنين.
إذن لماذا قرن الحق التكليف بالنهي عن الخمر والميسر- من قبل- بالأنصاب والأزلام؟ قال سبحانه ذلك ليبشع لنا الأمر، فوضع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام، ولنفهم أن الحكم بالنهي عن الخمر والميسر جاء ليقرنهما بالأنصاب والأزلام، وما داموا مؤمنين فلابد أنهم قد انتهوا عن الأنصاب والأزلام.
ويقول سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء}. والإرادة هي تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وتتعلق الإرادة بمريد، فهل يقدر على إنقاذ ما يريد أم لا يقدر؟ إن كان يقدر على إنقاذ ما يريد، فالقدرة تكون من بعد الإرادة.